تنافس الطبخ المنزلي والوجبات الجاهزة
الأكل الجاهز هكذا اخترقتنا شركات الطبخ العالمية
سألت أمي مرة، لماذا تطبخين؟ قالت لأن الطبخ يجعلنا بشراً. وكانت محقة.
هل لاحظتم أننا نصرف الكثير من الوقت على متابعة برامج الطبخ، ووقتاً أقل بكثير على ممارسة مهارة الطبخ بأنفسنا؟
نعم نحن نحب الطبخ، لكننا لم نعد نطبخ. هذه حكاية اغتيال المطبخ.
نشأة المطبخ الأول وبداية الطبخ
قبل 300 ألف سنة، وفي كهف قاسم في فلسطين، شيّد الإنسان القديم ربما، أول مطبخ في التاريخ مطبخ يعرف شيئاً واحداً، شي الطرائد على النار.
ظل الإنسان وحتى قبل 15 ألف سنة من يومنا هذا، يأكل اللحم ويجمع الثمار التي يعثر عليها. كانت الأدوار مقسمة ببساطة، رجل يصطاد وامرأة تطهو، وولدت العائلة.
د. هاني العواد: في الماضي كانت المرأة مسؤولة عن إعداد الطعام في المنزل، ومعنى إعداد الطعام في ذلك الوقت في المنزل لا يقتصر على الطبخ المنزلي ولكن أيضاً توفير الطعام من مصدره.
آلاف السنين مرت، وجاء عام 9000 قبل الميلاد ليحدث شيئاً سيغير شكل العالم. ويمهد لنشوء المدن والتجمعات البشرية، وظهور الحضارة، إنها الثورة الزراعية.
الثورة الزراعية
لقد تمكن الإنسان أخيراً من زراعة المحاصيل، ما وفر له طعاماً كثيراً، ولم يعد الجميع يصطاد ليأكل أو يزرع ليأكل فقط.
وجود الزراعة، وولادة التوابل، واكتشاف السكر، أمور ستجعل من الطبخ أكثر من مجرد وسيلة للبقاء.
أصبح الطبخ مهارة أبدع الإنسان فيها. وجعل منها فناً حقيقياً، فن سينتشر عبر القارات، ويخرج لنا ميراثاً متنوعاً من المطابخ حول العالم.
ومجدداً، شيء ما آخر سيتغير، وستكون ثورة أخرى.
الثورة الصناعية
جاءت الثورة الصناعية مع بدايات القرن الثامن عشر، ازدهرت الزراعة بفضل الآلة، مصانع ملأت المدن، واحتياج ضخم لعمالة أكبر، وازدهر الطبخ مع كل ذلك.
الرجال ذهبوا إلى العمل، وسيطرت النساء على المطبخ تماماً. بفضل اختراع فرن الغاز منتصف القرن التاسع عشر
لكن شيئاً ما حدث وفي هذه المرة لم يغير المعادلة وإنما غير العالم كله.
الحرب العالمية الأولى
في الحرب العالمية الأولى، احتاجت الجيوش للطعام القابل للتخزين طويل الأمد.
وأنفقت شركات المجهود الحربي جهوداً بحثية عملاقة، بهدف إنتاج طعام قابل للتخزين لفترات طويلة من جهة، وسريع التحضير من جهة اخرى.
حققت هذه الشركات أرباحاً هائلة، أرباحاً تضاعفت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، لكن الحرب انتهت وانتهى معها سوق انتعاش صناعات الأكل الجاهز.
لتدخل شركات الأطعمة أزمة كساد كبيرة. ولكي تتجنب هذه الشركات مزيداً من الخسائر قامت بعمل طبختها الخاصة.
فكرت شركات الأطعمة في غزو المنازل ،وبدأت بهندسة حملات دعاية ضخمة لتغيير قناعات وسلوك الشعوب تجاه الطعام.
في الخمسينيات كانت هناك حرب نفسية حقيقية، خطط لها عالم النفس الأمريكي ذائع الصيت إدوارد بيرنيز، منشئ عالم البروباغندا والعلاقات العامة كما نعرفه الآن.
حرب قادتها مؤسسة المصنعين الأمريكية الوطنية، والهدف، خلق روابط عاطفية بين المستهلكين والمنتجات المختلفة، وتحويلهم لمدمنين عليها، أياً كان نوعها.
نجحت الشركات بالفعل في السيطرة على طعام المنزل، وأصبحت الوجبات المجمدة والمعلبة غذاءً أساسياً للعائلات في الغرب.
وتحققت السيطرة ليس فقط على الكبار وأطعمتهم، بل وصلت لأغذية الصغار والرضع، وأصبحت الشركات تضاعف أرباحها وتناست خسائر الحرب تماماً.
اغتيال المطبخ
في فترة الستينات والسبعينات، دخلت المرأة سوق العمل بقوة، وعزفت عن الطبخ. لا أحد في المنزل ليطهو بعد اليوم، فهناك من يطهو للجميع.
د. هاني عواد: واحد من العوامل التي أدت إلى انخفاض أهمية الطبخ في المنزل، هو الثورة الزراعية التي شهدها العالم في السبعينات.
والثورة الزراعية هي التطور الهائل في تكنولوجيا الزراعة وصناعة الأسمدة والمبيدات التي أدت بشكل مباشر إلى زيادة ضخمة في الإنتاج، إنتاج المواد الغذائية، وانخفاض أسعارها بالتالي.
دعاية تلفزيونية:
هل أنت جائع؟ وفي عجلة من أمرك؟ وكثيرون ينتظرونك لإحضار الطعام؟
أجل.
اشتري الوجبة الكبيرة لماكدونالدز.
يبدو عشاءاً بالنسبة لي.
إنها حقاً وجبة شهية. 24 قطعة دجاج مشوية، مع علبتي بطاطس كبيرتين، وكوبي كوكا كولا بحجم كبير.
ماكدونالدز أنت تجعل العشاء سهلاً.
الوجبات الجاهزة
طعام نصف مطهو، بأرخص مواد أولية، وبطعم شهي. وأقل فوائد قد تتخيلها. وأكبر أضرار عرفتها البشرية.
يموت المطبخ إذن وتعيش الوجبات السريعة، وجبات لا تسبب لك ولأطفالك السمنة والكوليسترول وأمراض القلب فحسب، لكنها تغير أدمغتكم أيضاً.
فعند تناول وجبة جاهزة، يفرز الدماغ كميات هائلة من الدوبامين، هرمون المكافأة والسعادة، يدمن دماغك على هذا الكم ولا يشعر بالسعادة إلا به.
لذا، ولكي تصبح سعيداً مرة اخرى، سيجبرك دماغك على العودة ثانية لمطعمك السريع المفضل.
د. هاني عواد: وفي النهاية نحن نرى أن الطبخ المنزلي يوماً بعد يوم يرتبط أكثر بالمناسبات الإجتماعية وبطقوس التضامن الاجتماعي.
وبالعادة يتم التحسر عليه من هذا الباب أيضاً.
العالم العربي والتوقف عن الطبخ
أعاد اغتيال المطبخ هندسة الإنسان من الصفر، والعالم العربي ليس استثناءً، فنحن زبائن شركات الأكل السريع المفضلين.
في السعودية وحدها، تستهلك 8 ملايين وجبة يومياً، وتهيمن على حياة السعوديين أكثر من مائة شركة من هذا النوع.
وفي قطر والإمارات وشمال أفريقيا، ملايين الوجبات السريعة اليومية.
الطبخ المنزلي هو صديقك
غذاء حقيقي، طعام صحي، وترابط اجتماعي. صديقك، لكنه عدو شركات الغذاء التي تربح المليارات من تخليك عنه.
لذلك تعمل على تدمير ثقافة الطعام وتقاليده، وتصرف الملايين على الدعاية والخلطات السحرية القاتلة.
لرؤيتك في المحصلة، واقفاً في طابور لأجل شطيرة همبرغر رخيصة الثمن، قد تزيدك سعادة لكنها بالتأكيد ستزيدك سمنة، وتزيدك ربما قرباً من الموت.
المصدر الجزيرة